الأسرة السعيدة

خواطر كورونية (1)

الأسرة السعيدة

مجاهد مأمون ديرانيّة

لهذه الجائحة العالمية وجهها القبيح الذي يعرفه كل الناس، ولكنّ لها أيضاً وجهَها الحسن وفوائدَها التي لا تُنكر، وعلى رأسها  التآلفُ والتعارف والتوادُّ والتراحم بين أهل البيت الواحد.

صحيحٌ أنهم يعيشون معاً وينبغي أن يعرف كل واحد منهم سائر أهل البيت معرفة وثيقة، لكنْ ما كل ما ينبغي أن يكون يكون، ولا سيما في عصرٍ انشغل فيه كل واحد بخاصّة نفسه واختل التواصل بين الناس جميعاً، فلو سألتَ الأب عن أولاده، عن هواياتهم وميولهم وأفكارهم وأصحابهم وجميع شأنهم، كاد يعجز عن الإجابة عن سؤالين من كل ثلاثة. ولو سألت الزوج عن زوجته، عن همومها واهتماماتها وما تحب وما تكره، لرسب في الامتحان كثيرون.

فلما حبس الوباء الناسَ في البيوت واضطروا إلى قضاء الوقت الأطول متصاحبين تفتحت في الجُدُر المُصمَتة بينهم ثغراتٌ ونوافذُ نفذ منها كل واحد إلى عوالم الآخرين، فعرف الواحدُ أهلَ بيته كما لم يعرفهم من قبل، وزادت الألفة والمحبة والتفاهم والانسجام بين الجميع.

أعلم أن الأخبار تطير بالخلافات التي زادت في الأُسَر وأن الإحصاءات تشير إلى زيادة العنف في البيوت، ولكنها لا تُحمل على ظاهرها بإطلاق، فالإعلام يبرز السيّئ من الأخبار ويواري الحَسَن، لأنه يختار الشاذ الذي يثير اهتمام الناس ويتجاهل الشائع المألوف الذي لا يثير الاهتمام، فيصوّر عاصفة من غبار ويهمل تفتّحَ ملايين الأوراد والأزهار، ويخبرنا عن طيارة سقطت ومات ركابها ولا يخبرنا عن مئة ألف طيارة وصلت إلى غاياتها بسلام.

لا ريب أن الخلافات زادت في البيوت مع الحجر الإلزامي وزاد العنف الأسري، ولكنْ مَن قال إن الأخيار صاروا بالحَجْر من الأشرار؟ إن القويّ الذي يَفُشّ غليله وينفّس غضبه في الضعيف لم يكن إنساناً صالحاً قط، وإنما زادته الظروف الجديدة سوءاً فوق سوء. أما أصحاب الطبع النبيل والخلق الأصيل (وهم الأكثرون بحمد الله) فقد زادتهم هذه المحنة عطفاً ولطفاً وتقارباً وتفاهماً وألفة ومودة.

عاش الزوج مع زوجته في البيت ساعات النهار كلها فأدرك كم تَشقى لجعل البيت مكاناً صالحاً للحياة، فقدّرها كما لم يفعل من قبل. ولعله جاد عليها بالحنان ومَدّ لها يد العون (اقتداء بالحبيب المصطفى الذي كان في مهنة أهله) فعَظُم في عينها واحتل من قلبها أعلى الدرجات. واجتمع الآباء مع الأبناء أطول الأوقات فتقاربوا وتواددوا، وعرف الآباء من أخبار الأولاد ما جهلوه ونال الأولاد من فوائد الآباء ما حُرموه. ووجد الإخوةُ والأخوات فسحةً طويلة لتبادل الأخبار والأفكار والتشارك بالهوايات والاهتمامات، فازدادوا تقارباً وتوثقت علاقة بعضهم ببعض كما لم يحصل من قبل حين كان لكل منهم عالمه الذي يصرّم فيه أكثرَ وقته.

ربما كانت البيوت التي عصفت بها الخلافات خمسة آلاف فصارت عشرة آلاف، ولكن عشرات الملايين حلوا خلافاتهم وباتوا يعيشون في سعادة وهناء. وربما زاد العنف الأسري (الذي لا يُرضي الله) ولكن التفاهم والتراحم أيضاً زاد. ولئن كان الحجر الإلزامي في البيوت قد استخرج من بعض أصحاب الخلق السيّئ أسوأ ما في أنفسهم فقد ازداد به أصحابُ الخلق الكريم كرماً ونبلاً، وكان الذي كسبوه أكثر بكثير من الذي خسروه. وهذه من فوائد كورونا، ولها فوائد أخرى يأتي خبرها في المقالات الآتيات.

عافاكم الله.

نُشِرت في مشكلات اجتماعية وتربوية وأسرية | الوسوم: , , , , , , , , , | أضف تعليق

التراويح في البيوت: جماعة أم فُرادى؟

التراويح في البيوت: جماعة أم فُرادى؟

مجاهد مأمون ديرانيّة

مع تعليق صلاة التراويح في المساجد وأدائها في البيوت يسأل كثيرون: هل الأفضل أن يصليها كل واحد من أهل البيت منفرداً أو يجتمعون لأدائها جماعةً وراء إمام؟

هذا المسألة فرعٌ عن أصل، وأصلها هو: أيهما أفضل في صلاة التراويح، أداؤها جماعة في المساجد أم أداؤها في البيوت على انفراد؟

اختلف جواب الفقهاء عن هذا السؤال بسبب اختلاف نظرتهم إلى التراويح: هل هي كغيرها من النوافل الفردية التي يُستَحبّ أداؤها في خفاء وانفراد في البيوت لا في المساجد، كالرواتب وصلاة التهجد، أم أنها من نوع الشعائر الظاهرة التي يُستحَب إظهارها وإعلانها وأداؤها في جماعة، كصلاة العيد وصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء؟

المشهور هو الرأي الثاني والعملُ جارٍ عليه في كل الأزمان، إلا أن الذين فضّلوا الانفراد بالتراويح في البيوت (بشرط أن لا تتعطل جماعة المسجد) كثيرون، فقد ذهبت إلى هذا القول طائفة من السلف فيهم ابن عمر وعروة وسالم والقاسم وإبراهيم ونافع، واختاره أبو يوسف من كبار فقهاء الحنفية، وهو الراجح عند المالكية، وهو أيضاً اختيار أكثر فقهاء الشافعية كما نقله الماوردي في “الحاوي الكبير”، قال (2/291): “إن صلاة المنفرد في قيام شهر رمضان أفضل إن لم يكن في انفراده تعطيل الجماعة، وهو قول أكثر أصحابنا”.

وفي شرح ابن بطال على صحيح البخاري (3/126): “احتج قوم من الفقهاء بقعود النبي عليه الصلاة والسلام عن الخروج إلى أصحابه الليلةَ الثالثة أو الرابعة وقالوا: إن صلاة رمضان في البيت للمنفرد أفضل من صلاتها في المسجد، منهم مالك وأبو يوسف والشافعي. وقال مالك: كان ربيعة وغيرُ واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس، وأنا أفعل ذلك، فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في بيته. وذكر ابن أبي شيبة في مصنّفه عن ابن عمر وسالم وعلقمة والأسود أنهم كانوا لا يقومون مع الناس في رمضان، وقال الحسن البصري: “لأن تَفوهَ بالقرآن أحبُّ إليّ من أن يُفاهَ به عليك”. ومن الحجة لهم أيضاً حديث زيد بن ثابت أن النبي عليه الصلاة والسلام حين لم يخرج إليهم قال لهم: إني خشيت أن يُفرض عليكم، فصلّوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة”.

وقد عقب ابن عبد البر في الاستذكار (5/164) على هذا الحديث تعقيباً لطيفاً، قال: “فإذا كانت النافلة في البيت أفضلَ منها في مسجد النبي رغم أن الصلاة فيه بألف صلاة، فأي فضل أبْيَنُ من هذا؟ ولهذا كان مالك والشافعي ومن سلك سبيلهما يرون الانفراد في البيت أفضل في كل نافلة، فإذا قامت الصلاة في المساجد في رمضان ولو بأقل عدد فالصلاة حينئذ في البيت أفضل”.

*   *   *

لعل التفصيل السابق لم يقدم الجواب الحاسم المأمول، وليس الجواب الواحد مطلوباً في المسائل الخلافية التي وسع الخلاف فيها علماء الأمة على أي حال، فليصلّ التراويحَ كل واحد بالطريقة التي يشعر فيها بقدر أكبر من الخشوع والتدبّر والتركيز، سواء في المسجد مع الناس، أو في البيت منفرداً أو في جماعة.

أنا -كأكثر المسلمين في كل البلاد- كنت أرتاح لأفضلية صلاة الجماعة في المسجد لدهر طويل، ثم ملت إلى الرأي الآخر وشعرت فيه براحة نفسية أكبر، فانتقلت إلى الصلاة في البيت من أكثر من عشرين سنة. وكنت أقيم التراويح جماعة في أهل البيت، فأصلي أربعاً ثم أقدّم ولديّ الكبيرين فيصلي كل منهما اثنتين (وفي مثل هذا العمل تدريب عملي لأولادنا على الإمامة) ثم أختم بكلمة قصيرة فيها تعليق على بعض الآيات التي قُرئت في الصلاة. ثم كبر الأولاد وتزوج منهم من تزوج وتفرق الباقون للدراسة في البلاد فصرت أصلي منفرداً، فأطيل وأقصر وأركع وأسجد كما شئت غيرَ عابئ بمأموم أخشى عليه الملل والتعب لو طال القيام والسجود.

فهذه ثلاث صور جربتها كلها في التراويح: جماعة في المسجد وجماعة في البيت ثم منفرداً فيه، والصورة الأخيرة هي أقربها إلى قلبي وفيها أجد لذة التراويح العظيمة. على أنني لا أنصح غيري بأن يصنع مثل صنيعي ولا أنصح بخلافه، فالأمر متسع وفي الرأيين وجاهة معتبَرة ولكل مجتهد نصيب، المهم أن يصلي المرء صلاة تقربه من الله ويمتلئ فيها قلبه بالخشوع والإيمان والاطمئنان.

ولعل القول الفصل في المسألة هي كلمة ابن عبد البر في التمهيد (2/288): “القيام في رمضان تطوع، وكذلك قيام الليل كله، وقد خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرض على أمته، فمن أوجبه فرضاً أوقع ما خشيه رسول الله وخافه وكرهه على أمته. وإذا صَحّ أنه تطوع فقد علمنا بالسنة الثابتة أن التطوع في البيوت أفضل، إلا أنّ قيام رمضان [يعني في المساجد] لا بد أن يُقام اتّباعاً لعمر واستدلالاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قامت الصلاة في المساجد فالأفضل عندي حينئذ حيث تصلح للمصلي نيته وخشوعه وإخباته وتدبر ما يتلوه في صلاته، فحيث كان ذلك فهو أفضل إن شاء الله“.

نُشِرت في في الدعوة والإصلاح | الوسوم: , , , , , , , , | أضف تعليق

كورونا: لا هلع ولا استهتار

كورونا بين لاءَين: لا هَلَعَ ولا استهتار

مجاهد مأمون ديرانيّة

-1-

في عام 1918 كان العالَم يكافح لإنهاء واحدة من أسوأ الحروب التي عرفها التاريخ حتى ذلك الحين، حرب عالمية استمرت أربع سنوات وأربعة أشهر وغطت نصف الأرض وفتكت بعشرين مليون إنسان.

فيما كانت الحرب العالمية تنحسر عن العالم كان عدوٌّ أكثرُ شراسةً قد انطلق من عقاله وراح ينشر في الدنيا الموت والعذاب، فيروس صغير لا تراه العين انتشر في الكوكب كله وأصاب واحداً من كل أربعة من سكانه، وبعد معركة طويلة يائسة استمرت عامين كاملين انحسر الوباء مخلّفاً وراءه ما يزيد على خمسين مليون وفاة.

-2-

يسمَّى المرض “وباء” [epidemic] عندما ينتشر انتشاراً سريعاً ويصيب عدداً كبيراً من الناس في بقعة جغرافية محدودة، فإذا ازداد انتشاراً وغطى مناطق واسعة متباعدة وتضاعفت أعدادُ المصابين به بسرعة صار اسمه “جائحة” [pandemic] أو وباء عاماً. ولا شك أن قدرة أي وباء على القتل تجعله خطيراً، غير أن الخطورة الحقيقية في الأوبئة تأتي من قدرتها على الانتشار السريع أكثر من قدرتها على القتل، ففيروس إيبولا أشد فتكاً من فيروس كورونا، إلا أن انتشاره أبطأ بما لا يقاس والسيطرة عليه أسهل بكثير.

في أحد خطاباته المبكرة عن الوباء الجديد حاول الرئيس الأمريكي التقليل من شأنه بمقارنته بالأنفلونزا الموسمية التي يموت بسببها مئات الآلاف كل عام. وهذه المقارنة مضلّلة تماماً، لأن الأنفلونزا السنوية التي تسرح وتمرح في طول العالم وعرضه كل شتاء تصيب واحداً من كل ألفين من سكان الكوكب بالمتوسط، أما وباء كورونا الجديد فإنه يمكن أن يصل إلى واحد من كل اثنين من الناس لو فقد العالمُ السيطرةَ عليه، فهو سريع الانتشار بشكل مذهل، وحتى نسبةُ قتل متدنية لا تتجاوز ثلاثةً بالمئة تجعله فتاكاً جداً ومخيفاً جداً مقارَنةً بسائر الأمراض.

-3-

كثيرون تساءلوا باستغراب: هل يستحق وباء كورونا هذه الضجةَ وتلك التدابيرَ الصارمة والاحترازات الشديدة التي اتخذتها كل دول العالم اليوم؟ الجواب: نعم، بالتأكيد، لأن فقدان السيطرة على الوباء تعني أنه سينتشر بنفس الطريقة التي انتشر بها وباء الأنفلونزا الإسبانية سنة 1918، ولن يُستبعَد أن يصاب به ثلاثة مليارات إنسان ويموت بسببه مئة مليون.

لعل أصدق كلمة قيلت في التعامل مع المرض، أيّ مرض، هي “الوقاية خير من العلاج”. فتجنُّبُ الوقوع فيه أفضل من علاج آثاره وأسهلُ وأقل ألماً وكلفة، هذا لو أن العلاج كان ممكناً أصلاً، فكيف ولا علاجَ لهذا المرض الجديد؟ كيف والأعدادُ الهائلة للمرضى تستنزف القدرات المحدودة للمؤسسات الطبية؟ حتى دولٌ كبرى انهارت منظوماتها الصحية عندما تعرضت لهذا الامتحان العصيب، فكيف لعاقل أن يخوض مغامرةً الثمنُ فيها ملايينُ الأرواح؟

-4-

الإسلام ليس مرجعاً في الطب، غيرَ أن تعاليمه الشاملة التي نظّمت حياة الناس لم تَغفُل عن أساسياتٍ تتعلق بسلامة الفرد والجماعة، فما هي توجيهاته في الصحة والعلاج، في الأمراض العادية والأوبئة العامة؟

أما على مستوى الفرد فأمَرَ الدينُ بالتداوي من المرض إذا وقع المرض، ولكنه حثّ على اتّقائه ما أمكن اتقاؤه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: “يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء”، وهي دعوة صريحة لطلب العلاج. وقال: “لا يورِدنّ مُمْرِضٌ على مُصِحّ”، وهي دعوة لعدم اختلاط المريض بالأصحّاء.

وأما على مستوى الجماعة فالعمدة في الباب هو حديث الطاعون: “ليس من رجل يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد”، وفي رواية عند أحمد: “فيمكث في بيته”. وهذا الحديث -بلفظَيه- حُجّةٌ في العزل الفردي والجماعي الذي تمارسه أكثر الدول اليوم.

-5-

من عَجَبٍ أن يلتفت إلى هذه المعاني مَن لم ينشأ في الإسلام ولم يكن الإسلامُ له ديناً ويتجاهلَها من نشأ فيه وهو دينُه ودين آبائه.

الدكتور كريغ كونسِداين محاضرٌ في علم الاجتماع في جامعة رايس (هيوستون، تكساس) وباحث ومؤلف في الإسلام والتاريخ الإسلامي وكاتب في كبرى الصحف الأمريكية: نيويورك تايمز وواشنطون بوست وفورين بوليسي وغيرها، وهو أمريكي كاثوليكي من أصل آيرلندي إيطالي. نشر قبل أيام مقالة في مجلة نيوزويك بعنوان: “هل يمكن مكافحة الوباء بالدعاء وحدَه؟ النبي محمد كان له رأي مغاير”.

وصف الدكتور كونسداين في مقالته توصيةَ الأطباء الرئيسية لمحاصرة الوباء: النظافة والعزل، ثم قال: “هل تعلمون مَن أيضاً اقترح هذه الوسائل ذاتها لعلاج الأمراض والأوبئة؟ إنه نبي الإسلام محمد الذي قدم نصيحة ثمينة لمحاربة وقمع فيروس قاتل مثل الكورونا…” ثم استفاض في عرض الأحاديث التي قرأتموها قبل قليل، ومعها حديث التوكل الذي أمر فيه النبي عليه الصلاة والسلام الأعرابيَّ بعَقْل ناقته ثم التوكل على الله بعد الأخذ بالأسباب. ثم ختم مقالته بهذه الكلمات المعبّرة: “كان محمد يأمُل أن يتخذ الناس إجراءات وقائية احترازية من شأنها ضمان سلامة المجتمع واستقراره، أو بكلمات أخرى: أراد أن يتبع الناس نداء العقل السليم في مثل هذه الظروف” (نص المقالة الكامل في الرابط تحت هذا المنشور).

-6-

ليس المطلوب أن يفزع الناس وهم يواجهون هذا الوباء الخطير، فالفزع قَتّال، وقد رأيت ضحاياه بعينَي رأسي قبل ثلاث وأربعين سنة لمّا تطوعت مع جوالة جامعة الملك عبد العزيز (وأنا طالب فيها) لإرشاد الحجاج في المشاعر. وقعت يومها مَقتلة في يوم النحر عند الجَمرة الكبرى؛ تعثّر بعض الحجاج فسقطوا وسقط فوقهم غيرُهم، فانتشر الفزع وتدافع الناس حتى وطئ بعضهم على بعض ومات بضعة وأربعون منهم دعساً تحت الأرجل، وكدت أموت معهم لولا لطف الله، ولو ضبطوا أنفسهم وتحركوا بهدوء لنجوا جميعاً، رحمهم الله.

ولكن الإفراط في التهاون بالمرض والاستخفاف به ليس أقلَّ شراً من الإفراط في الخوف منه والهلع بسببه، فالوَلاّجون الخَرّاجون الذين يستهترون بخطر العدوى ويتزاحمون ويتخالطون يساعدون على نقل فيروسات المرض ونشرها في المجتمع، فيضرّون أنفسهم ويضرّون غيرهم من الناس، وهم آثمون.

انظروا إلى هذا الحديث الوجيز العظيم الذي قدّم قاعدة من أعظم القواعد الإنسانية: “لا ضرر ولا ضرار”. الضرر معروف، والضرار هو مصدر الفعل “أضَرّ”، بمعنى التسبب في الضرر للآخرين. فصار معنى الحديث: غيرُ مسموح لأي فرد في المجتمع أن يضر نفسه أو يضر غيرَه، ومن صنع ذلك فإنه آثم لمخالفته توجيهَ النبي الصريح، عليه صلاة الله وسلامه، وللسلطة التنفيذية في أي بلد أن تمنعه بقوة القانون، لأن من واجبات السلطة توفير الأمان للمجتمع وعموم الناس.

-7-

الخلاصة: الإنسان العادي يجنح بطبيعته إلى التبسيط ولا يحبّ التفكير بالحلول المركبة، لذلك يختار أكثرُ الناس الميل إلى أحد الطرفين في أي مسألة تعرض لهم، و”كلا طرفَي قصد الأمور ذَميمُ”. الإنسان العاقل يقاوم الكسل العقلي ويُتعب نفسه للوصول إلى الرؤية الصحيحة في أي مشكلة، وهي غالباً موقف وسيط بين الآراء المتطرفة، وهي في حالة هذا الوباء تحديداً: استجابةٌ عاقلة واعية تبتعد عن الهلع العشوائي (الذي رأينا من صوره في أمريكا ما لم نَرَ مثله في بلادنا بحمد الله) وتبتعد أيضاً عن الاستهتار والاستخفاف اللذين من شأنهما مسارعة انتشار الوباء وخروجه عن السيطرة لا قدّر الله.

لقد أصدرت كل دول العالم تقريباً قوانينَ مؤقتة وتعليمات صارمة من شأنها محاصرة الوباء، والعقلُ والشرع يقتضيان اتباعَ تلك التعليمات واحترامَ القوانين طالما أنها تهدف لتحقيق الصالح العام، وإنّ تَحَدّيها ومخالفتها ليس سلوكاً حضارياً ولا شرعياً ولا هو دالٌّ على الرجولة والشجاعة.

قبل نحو عشرة أيام دخلت إلى القاموس الإنكليزي كلمة جديدة صفةً للشخص الذي يستهتر بوباء كورونا ويتحدى توجيهات السلطات الصحية الساعية إلى الحد من انتشاره: “كوفِدْيوت” [covidiot] (اشتقاقاً من اسم الفيروس). المطلوب أن لا نكون كوفِديوتيّين مستهترين ولا فَزِعين هَلِعين، المطلوب موقف وسط بين الوقوع ضحايا لفوبيا كورونا أو الاستخفاف الكامل به. المطلوب موقف إسلامي وعقلاني يهتدي بهدي النبي عليه الصلاة والسلام وبهدي الفطرة السويّة والعقل السليم: الحرص الشديد والاحتياط الكامل، مع الاتكال الحقيقي على الله والرضا الكامل بقضاء الله.

حماكم الله من البلاء والوباء.

_______________

* رابط مقالة الدكتور كونسيداين

https://www.newsweek.com/prophet-prayer-muhammad-covid-19-coronavirus-1492798

#كورونا
#سلامتك_في_بيتك
#الزم_بيتك
#خليك_بالبيت
#Corona
#COVID19

نُشِرت في رسائل الثورة | الوسوم: , , , , , , , , , , , , , , , , , | أضف تعليق

أمَا ظلَمْنا هؤلاء الرجال؟

أمَا ظلَمْنا هؤلاء الرجال؟

مجاهد مأمون ديرانيّة

هذه وجهة نظر قَلّ أن يفكر فيها أحد: نحن نتابع مجريات المعارك من خلال الغرف الثورية ولا نتوقف عن طرح آرائنا الإيجابية والسلبية في الإنجازات العسكرية التي تحققها فصائلنا المسلحة، وغالباً نغضب ونعتب ونتساءل بمرارة عن سبب الانهيار في جبهة وعدم الصمود في بلدة والانسحاب المفاجئ من محور وسقوط المناطق بيد الأعداء.

يا ترى ماذا يحصل لو عكسنا المنظار ذات مرة؟ لو دَوَّرنا الطاولة نصف دورة فصرنا نحن المقاتلين في الميدان والمقاتلون هم المنظّرين في غرف الثورة؟ ماذا سنقول؟

ربما مسح الواحدُ منا دماً كسا وجهَه وملأ عينيه ثم نظر إلى رفيقٍ له مسجّى أمامه على التراب وقال: أفٍّ لكم! تعالوا احملوا معي بعض الحمل، على الأقل احفروا لي ولإخواني قبوراً فإنّا ما عاد في طاقتنا أن نحفر لأنفسنا القبور! مُدّوا لنا يداً حانية أو اتركونا لنخوض معركتنا الأخيرة ونموت على تراب أرضنا بسلام!

أظن أننا نظلم شبابنا ونقسو عليهم ونجهل معاناتهم ونتجاهل تضحياتهم ونطالبهم أحياناً بما هو أقرب إلى المستحيل. ربما نحن مَدينون بكلمة شكر صادق من القلب لكل مقاتل حمل السلاح وبات ليلة على الجبهة في برد الشتاء القارس. لعل من حق شبابنا أن يسمعوا ذات يوم منا كلمة طيبة وثناء على الجهد الهائل الذي يبذلونه وتقديراً لتضحياتهم التي لا تقدَّر بثمن. أحسبُ أن علينا الاعتراف أخيراً بأن صمودهم في وجه الآلة العسكرية الروسية الجبارة هو بحدّ ذاته أسطورة ستروي خبرَها الأجيالُ للأجيال.

أمَا لقد بالغنا حقاً في القسوة ونسينا أن الذين يقاتلون روسيا وإيران -في نهاية الأمر- إنما هم حفنة رجال لا يملكون سوى أقل القليل من السلاح وأكثر الكثير من العزيمة والإيمان. فليباركهم الله.

معذرة يا رجال، سامحونا، فقد بالغنا في الأمانيّ وقصّرنا في الشكر والتقدير، فإنْ غفل عن تقديركم الناسُ فإن ربّ الناس لا يغفل ولا ينسى، وعنده لا تضيع مثقال ذرة من عمل صالح. بارككم الله.

 

نُشِرت في خواطر ومشاعر | الوسوم: , , , , , , , , , , , , | أضف تعليق

سؤال الثورة الأكبر في عيدها التاسع

سؤال الثورة الأكبر في عيدها التاسع

مجاهد مأمون ديرانيّة

السؤال الأول والأكبر الذي يبحث عن جوابه كتّابُ الثورة ومؤرّخوها هو: هل كان قرار الثورة قراراً صائباً كما يقول أهل الثورة، أم كان مجازفة غيرَ محسوبة كما يزعم حزب “كنّا عايشين”؟

على أنه سؤال جدلي لا تترتب عليه نتيجة، فإن كان قرار الثورة صواباً لن نجد من نشكره عليه، وإن كان خطأ لن نجد من نلومه بسببه، لأن أحداً لا يعلم كيف بدأت الثورة ومَن يتحمل مسؤولية إطلاقها. نعم، بدأت الحكايةُ بخربشة أطفال درعا على الحيطان ثم خرج مئات الأحرار في أولى المظاهرات، لكن مَن الذي دفع الأطفال إلى الكتابة ومن أخرج الآخرين إلى الطرقات؟

كلما تأملنا ازددنا يقيناً بأن إرادة ربّانية كانت وراء تحريك الثورة ابتداء، وأن رعاية ربانية كانت خلف ثباتها واستمرارها رغم التحديات والصعوبات والمعوّقات. لقد وُجد ألفُ سبب لتُهزَم هذه الثورة وتموت ووُجدت خمسة أسباب لتنجح في البقاء، وانتصرت الخمسة على الألف، كيف؟ إنها المعجزة التي أعْيَتْ أهل العصر فلم يجدوا جوابها، وستُعجز كتّاب التاريخ ولن يجدوا لها الجواب.

*   *   *

رغم ذلك يبقى السؤال ضرورياً من باب المراجعة، من باب “محاكمة الثورة” في عيدها التاسع: أكانت الثورة صواباً يُشكر عليه كل من كان سبباً فيه، أم خطأ يُلام عليه كل من تورط فيه؟

يقول أعضاء حزب “كنا عايشين” إننا كنا عايشين، وهذا صحيح بمقاييس الأنعام لا بمقياس البشر، فالبهائم وحدها هي التي تكتفي بالأكل والشرب والسفاد، أما الإنسان فإن له أشواقاً روحية ورغبات نفسية وحاجات فكرية تجعله إنساناً مختلفاً عن الحيوان، وقد كانت الاستجابة لتلك الأشواق والرغبات والحاجات جرائمَ في قانون نظام الاحتلال الأسدي الطائفي، جرائم يستحق مرتكبوها أفظع الويلات وأشد العقوبات.

كان القانون غير المعلَن لذلك النظام الآثم: اخلع كرامتك وتجرد من إنسانيتك ثم ادخل في قفص الاستعباد الأكبر الذي كان اسمه ذات يوم سوريا، فانسَ أنك إنسان وعش فيها ذليلاً أسيراً كسيراً بلا كرامة ولا لسان، أو مُتْ وحيداً في المعتقلات أو شريداً في المغترَبات.

*   *   *

النتيجة التي نصل إليها: لو كان تفجير الثورة في سوريا جريمة فإنها سوف تسجَّل حتماً ضد مجهول، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، بل هي واجب شرعي ووطني وأخلاقي لا مفر منه، فما كان لأهل سوريا أن يرضَوا بحياة الذلة والاستعباد، ولا أن يسمحوا بأن تنتقل هذه الذلة والعبودية إلى الأولاد والأحفاد وأن تتسلسل في الأعقاب بلا نهاية، وما كان لهذا النظام المجرم أن يتنازل طوعاً عن استبداده، ولا كانت طائفته لتتنازل بإرادتها عن تحكّمها في أكثرية سكان البلاد. ما كان لشيء من هذا أن يأتي على طبق من فضة ولا على طبق من ذهب، إنما تنتزع الحرية والكرامة من هذا النظام قسراً بالثورة التي تروّيها الدماء والتضحيات.

فشكراً لكم يا أطفال درعا، يا من كنتم في ذلك اليوم الخالد أطفالاً وصرتم اليوم في جملة الرجال. وشكراً لكم يا طلائع الثوار الأحرار، يا من كنتم قلّة قليلة ثم غدوتم الكثرة الكاثرة من السوريين. والحمد لله من قبلُ ومن بعد، الحمد له على ما قدّر وعلى ما اختار، ونسأله عز وجل وتبارك أن يقصر المحنة ويقرب الفرج، وأن يعين أهل سوريا على طول الطريق وأن يكلل صبرهم وجهادهم بالنصر الكامل وبالحرية والاستقلال.

نُشِرت في خواطر ومشاعر, رسائل الثورة | الوسوم: , , , , , , , , , , , , , , , , , , , | أضف تعليق

حرائرنا المَنسيّات: مَن المَلوم؟

في يوم المرأة العالمي

حرائرنا المَنسيّات: مَن المَلوم؟

مجاهد مأمون ديرانيّة

أسيراتنا في سجون النظام هُنّ الأسى الذي لا يُنسى وهُنّ جرح الثورة النازف.

ولكنْ مَن نلوم على مرور السنين بعد السنين وهُنّ منسيات ضائعات؟ أنلوم النظام وهو الإمام في الإجرام؟ لا يُسأَل عن ذنوبهم المجرمون (لكثرتها وبشاعتها، فيُلقَون في النار بغير سؤال، على قولٍ في الآية). أم نلوم المجتمع الدولي؟ إنما نحن في نظر القوم ذباب، ولو كانت لنا قيمة لصنعوا شيئاً يَقفون به نهرَ الدم المتدفق في أرضنا منذ تسع سنين.

إنما يُلام من يستطيع من أهل الثورة أن يصنع شيئاً ثم لم يصنع. إنما يُلام السياسيون والعسكريون الذين كان في يدهم شيء من قوة ثم لم يستغلوا القوة التي في يدهم لإطلاق أسيراتنا وتحرير أسرانا من السجون والمعتقلات.

السياسيون الذين ذهبوا يهرولون من مؤتمر إلى مؤتمر خاضعين خانعين وفي يدهم سلاح لم يستخدموه: الضغط والمقاطعة والاستعصاء حتى يحقق النظام شرطاً مسبقاً من الشروط الأممية، هو إطلاق الأسرى وإغلاق ملف المعتقلين.

والعسكريون الذين امتلكوا بعض القوة في بعض الأوقات وكانت في يد بعضهم ذات يوم أوراق، فلم يبالوا بأسيراتنا وأسرانا وبعثروا أوراق القوة أو تركوها حتى أبْلَتها الأيام وأكلتها الحادثات الجسام. وعلى رأسهم الجولاني وجبهته المخذولة، الذين باعوا رهائن كثيرين وقبضوا أثمانهم بالملايين ولم يفكروا في حرائرنا قط، سوى مرة واحدة أطلقوا فيها زوجة البغدادي لا أكثر، عليهم وعلى البغدادي غضب الله!

*   *   *

على أنها تبقى شهادة لا بد من تسجيلها للتاريخ: لم يحمل هذا الهَمّ إلا قائدٌ واحد لم تعرف الثورة أنبل منه، والباقون يتنافسون في الجحود وانعدام الوفاء واللامبالاة بحرائرنا اللائي يعانينَ في السجون ما لا طاقة به لصخور الجبال. القائد النبيل عمار داديخي قائد عاصفة الشمال، الذي أسر ذات يوم ثلّة من قادة حزب اللات فعُرض عليه مقابل إطلاق سراحهم من المال ما لا يحلم مثلُه بمثله، عشرات الملايين من الدولارات، وتوافدت عليه الوفود وتوسطت بين يديه الوساطات من دول كبيرة، فأبى وأصر على إطلاق سراح أسيراتنا من باستيلات الأسد، وقدّم للوسطاء قوائم بألف من حرائرنا، فلا يُطلَق أسرى حزب اللات حتى يطلقهنّ النظام من المعتقَلات.

ثم استُشهد الرجل بعد إصابته في معركة مطار منّغ، فحافظ إخوانه على عهده، واستلم ملفَّ الأسرى نائبه الشيخ منير حسّون، الذي خشي أن يفتن المال الكثير مقاتليه فراح يطوف بهم مستفزاً نخوتهم وشرفهم، يسأل كل واحد: الناموس أم الفلوس؟ فكان جواب الفصيل كله: الناموس ولا الفلوس!

عندئذ لم يجد أعداء الثورة إلا أن يطلقوا عليهم كلاب البشر، داعش، فقاتلوهم وخذلتهم الفصائل، واشترطت داعش تسليم اللبنانيين التسعة حتى توقف الهجوم على الفصيل، فاضطروا إلى تسريع التفاوض وإنهائه تحت النار وسلموا الأسرى للمفاوضين الأتراك، ثم نجحت عملية التبادل في إطلاق سراح خمس وستين حرة من حرائرنا وطيارَين تركيين كانا في الأسر عند حزب اللات. ولم يلبث الشيخ منير أن دفع حياته ثمناً لهذا الإنجاز العظيم، فاستُشهد مع ثلة من رفاقه في معسكر جبل برصايا فجر يوم عيد الأضحى بعدما تفردت بهم داعش وتخلت عنهم الفصائل وخذلهم الأقربون والأبعدون. ولسوف يقفون جميعاً في يوم آتٍ بين يدي الديّان في محكمة السماء، فيومئذ يقتص الحكم العادل للقتيل المظلوم من الذين قتلوه ومن الذين أسلموه ظلماً لقاتليه.

*   *   *

مضى عمار ومنير ورفاقهما وبقيت القصة في سجلات التاريخ، قصة قادة نبلاء تربعوا على قمة هرم النبل والوفاء، كانت حرائرنا هَمّهم حتى الممات وقدموا الناموس والشرف على الملايين وعشرات الملايين، وقصة آخرين اختاروا العيش في قعر النذالة والجحود، كانت في أيديهم أوراق يملكون بها فكَّ أسر أسيراتنا وأسرانا من السجون ثم لم يفعلوا، وعند الله الحساب.

نُشِرت في داعشيات, رسائل الثورة | الوسوم: , , , , , , , , , , , , , , , , | أضف تعليق

من وسط الظلام الحالك تتسرب شُعاعات الفجر الصادق

من وسط الظلام الحالك
تتسرب شُعاعات الفجر الصادق

مجاهد مأمون ديرانيّة

قبل بضعة أيام كانت القرى والبلدات تتهاوى أمام زحف مليشيات النظام وحلفائه، وطياراته تسرح وتمرح في السماء مع طيارات العدو الروسي فتحرق البشر والحجر، والمدنيون يتركون بيوتهم وهم ينظرون إليها نظرة مودّع لا يظن أنّ بعد الفراق لقاء، وكانت مدن وبلدات حوران هادئة (أو كالهادئة)، وظن كثيرون أن الثورة ميتة لا محالة!

مَن كان يظن أنها لا تأتي ثلاثةُ أيام حتى تتهاوى طيّارات العدو في السماء كالفَراش، وتفتك الطيارات الصديقة بدبابات العدو وآلياته وعناصره على الأرض، وتتحول مطارات العدو العسكرية إلى خرائب، وتتحرر مناطقنا المحتلة بالجملة، إحدى عشرة قرية في إحدى عشرة ساعة، واحدة كل ساعة، وتُوسّط عصابةُ حزب اللات إيرانَ لسحب عناصرها المحاصرين وجثث قتلاها من سراقب، وتنفجر حوران (مهد الثورة) فيأتي رجالها الصناديد بأعاجيب البطولات؟

ما أجملَ التوكلَ على الله (بعد الأخذ بالأسباب وبذل غاية الجهد البشري الممكن)! ما أجملَ فرجَ الله الذي يأتي من حيث لا يحتسب أهلُ البلاء! اللهم زد وبارك، ولك الحمد.

#ثورة_لا_تموت
#استبشروا
#Bismillah

نُشِرت في خواطر ومشاعر | الوسوم: , , , , , , , , , , , , | أضف تعليق

مهلاً يا نُعاةَ الثورة!

مهلاً يا نُعاةَ الثورة!

مجاهد مأمون ديرانيّة

الذين طبعوا نَعيات الثورة منذ شهور وأوشكوا أن يبدؤوا بتعليقها على الحيطان (أو بدؤوا) استعجلوا وخانهم التقدير.

خلال آخر 48 ساعة حرر أبطال الجيش الوطني -بفضل الله- مدينة سراقب الإستراتيجية وثلّةً من بلدات إدلب وقراها: آفس والصالحية والترنبة وجوباس وداديخ وتلة داديخ وكفر بطيخ ومجارز وسان ومعارة عليا وشركة الكهرباء وشابور وزكار، واستعادوا بلدة كنصفرة في جبل الزاوية.

هذا الإنجاز الهائل يؤكد حقيقة مهمة ينبغي على إعلام الثورة الاهتمامُ بترسيخها في نفوس حاضنة الثورة، وقصفُ مؤيدي النظام بها في الوقت ذاته: إن المعركة لم تنتهِ بعدُ. قد نخسر في يومٍ أرضاً وقد نضعُف في بعض الأحيان، ولكن الثورة ما تزال قادرة على استرداد عافيتها واسترجاع عنفوانها في أي وقت ينتفضُ فيه أبناؤها المخلصون، فهي ماردٌ قد يغفو هُنَيّة ولكنه لا ينام أبدَ الزمن، وقد يمرض أو يتعب ولكنه لا يموت بإذن الله الذي يمدّه بالصبر والقوة والحياة.

تذكروا هذه الحقيقة أبداً يا أهل الثورة فلا تُجْزعكم هزيمةٌ ولا يُبْطركم انتصار، تذكروها لئلا يتلاعب بعواطفكم بائعو اليأس الذين لا يملّون من تسويق القنوط من الثورة ومن رحمة الله.

وتذكروها أبداً يا عبيد النظام، تذكروها لتعلموا أن شعلة ثورتنا ما زالت متّقدة، وأن معركة الحرية التي بدأناها في آذار عام 2011 لمّا تَضَعْ أوزارَها. تذكروا أن الحَكَم لم يطلق صفارةَ النهاية بعد، فأخّروا احتفالكم بالنصر ووفروا دموع الفرح والانتصار لتذرفوها دموعَ ألم وانكسار في يومٍ آتٍ بإذن القاهر الجبّار.

نُشِرت في خواطر ومشاعر, رسائل الثورة | الوسوم: , , , , , , , , , , , , , | أضف تعليق

إعلام الثورة والمعادلة الصعبة

إعلام الثورة والمعادلة الصعبة

مجاهد مأمون ديرانيّة

الجمعُ بين رسالتين: الصدق مع الجمهور والامتناع عن بيع الأوهام الزائفة، ورعاية شمعة الأمل وصيانتها وحمايتها من أن تطفئها رياح اليأس العاتية.

إنها مهمة صعبة قطعاً، ولكنها ليست مستحيلة أبداً، فإما أن تنجح فيها -يا حاملَ القلم- أو تكسر القلم وتعتزل الكتابة، فقد اكتفى الناس من اثنين: إعلاميين وكتّاب لو امتلأت الكأسُ بالماء إلا قطرةً لأبصروا موضع القطرة وغفلوا عن الكأس المَلأى وما فيها من ماء، وآخرين لو بقيت في قعر الكأس قطرةٌ واحدة لخَيّل لهم خيالُهم الجامح أنها ستمتلئ بالماء بمعجزة من غير عمل نعمله ودون الأخذ بالأسباب.

والحقيقة أن معركة الحرية مع الاستبداد صعبةٌ اليومَ كما كانت صعبةً في آذار عام 2011، وأن أكثر القُوى الدولية لا تريد للثورة أن تنتصر اليوم كما لم تُرِدْ لها النصر يوم انفجرت في آذار عام 2011، وأن الثورة يمكن أن تحقق اليوم الكثيرَ بالإخلاص والعمل الجاد كما حققت بهما الكثيرَ في ذلك اليوم البعيد، وأن الثورة ما تزال حية مهما أصابتها العلل والأمراض، وأنها أثمنُ ما ملكناه في القرن الأخير وأغلاه، وأن المرء لا يتخلى عن أثمن ما يملكه إذا اعتلّ ولا عن أغلى الناس وأحبهم إليه إذا مرض، بل يُصلح هذا ويداوي ذاك ويستفرغ في العلاج والإصلاح الوسعَ وما بعد الوسع وما فوق الوسع بكثير.

وأم الحقائق وأكبرها -في الختام- هي أن منشأ علل الثورة ومشكلاتها منّا ومن داخلها قبل أن تكون من خارجها ومن غيرنا، وأننا نملك القدرة على الإصلاح والتغيير لو تضافرت الأصوات المخلصة وتراكمت الجهود الخيّرة، وأن الثورة ستبقى حيّة ما بقيت يدٌ واحدة، واحدة فحسب، ترفع مشعلها المتّقد وتمضي به في طريق الحرية العظيم.

نُشِرت في خواطر ومشاعر | الوسوم: , , , , , , , , , , , , | أضف تعليق

لكيلا يهلكنا الصمت

حتى لا تضيع الفرصة الأخيرة

(6) لكيلا يهلكنا الصمت

مجاهد مأمون ديرانيّة

يروي أصحاب التاريخ أن مدينة يونانية قديمة اسمها إميكلي أزعجها ما كان يُشاع فيها باستمرار عن قرب غزو الإسبرطيين لها، فصدر قانون يمنع ذكر العدو ويحذّر من التحذير منه. بعد مدة وصل الإسبرطيون فلم يجرؤ أحد على إنذار الناس، فسقطت المدينة وقُتل أكثر سكانها، وصار اسمها في التاريخ “المدينة التي أهلكها الصمت”.

يسألني كثير من الأفاضل: ماذا نفعل في سبيل إنقاذ الثورة؟ ماذا نفعل لنعيد للثورة ألَقَها الأول الذي تبدد كثيرٌ منه بمرور الأيام؟ ماذا نفعل لننقذ ثورتنا العظيمة الغالية من الفناء؟ ماذا نصنع ونحن بعيدون عاجزون؟

يا أيها الكرام: إننا لا نعاني من أزمة في التشخيص؛ لقد عرفنا الداء وعرفنا الدواء، إلا أننا نستثقل أن نتجرّعه أو نعجز عن حمل المرضى على تجرّع الدواء. والداء فينا لا في غيرنا؛ نعم، هو من عند أنفسنا، وإلاّ نُصلحْ ثورتَنا ونَنْفِ عنها أخطاءها فإنها -لا قدّر الله- إلى زوال. فماذا نملك؟ ماذا أملك أنا وماذا تملكون سوى النصيحة الصادقة والتنبيه بعد التنبيه؟ لا نملك إلا الكلمة التي نقدمها حتى لا يهلكنا الصمت.

يقولون إن الإعلام هو السلطة الرابعة، وهو في ثورتنا رأس السلطات وأهمها لأنه البوصلة التي يُنتظَر منها أن تحافظ على الاتجاه الصحيح، فإنْ ضَلّ حاملُ البوصلة تاهت السفينة ولم تصل إلى بَرّ الأمان. إنها مسؤوليةٌ عامة يشترك في حملها أهل الإعلام وأصحاب الأقلام، فكل من حمل قلماً وكل من وقف على منبر سيسأله الله عن الكلام الذي كتبه وقاله: لِمَ كتبه ولِمَ قاله؟ وعن الكلام الذي لم يقله ولم يكتبه: لِمَ كتمه ولم يبيّنه في مقام البيان؟

من أجل ذلك كتبت الحلقات الخمس الماضية في هذه السلسلة، ولم أستَقصِ، إنما وقفت عند الأساسيات والإصلاحات الكبرى التي تُطلب من أهل الثورة لإنقاذ الثورة، وبقيَت كلمة عن “الإعلام الثوري” أختم بها وأعود إلى الصمت والاعتزال اللذين عشت فيهما في العام الأخير.

*   *   *

لنبدأ بتقرير قاعدة أولية يغفل عنها كثيرون: “ليس في الدنيا إعلام محايد”. بل إن كلمة الحياد ذاتها توقع المرء في تناقض منطقي، لأن المحايد هو الشخص الذي آثر الانحياز إلى موقف غير منحاز لأي من طرفَي الصراع. فإذا قال لك شخص ما أنه محايد بالنسبة للثورة (فلا هو معها ولا مع النظام) فاعلم أنه منحاز للموقف الحذر الذي يُعفيه من عواقب الانحياز، إما لأنه لا يحتمل دفع ثمن الانتماء للثورة ونصرتها، أو لأنه مقتنع بأن النظام لا يستحق البقاء لكن الثورة عجزت عن إقناعه بأنها البديل الصالح. وهذا استطراد ليس محله هذه المقالة على أي حال.

نعم، الإعلام المحايد ليس له وجود إلا في الخيال. كل إعلام في الدنيا يخدم قضية من القضايا بشكل مباشر أو غير مباشر، فالإعلام الإسلامي سيهتم دوماً بتقديم المعلومات والأخبار التي تعزّز الإيمان ويحجب المواد الإعلامية التي تسبب الشك وتدعو إلى الإلحاد، والإعلام الإلحادي سيكون حريصاً بالمقابل على تكريس اللادينية وحجب أي مواد تدعم الإيمان وتدعو إلى اليقين. وكذلك كل قضيتين مختلفتين في هذه الدنيا، لا بد أن ينحاز الإعلام، أيُّ إعلام، إلى هذه أو تلك، بصورة فجة مكشوفة أحياناً (إذا كان إعلاماً بدائياً متهافتاً) أو بصورة خفية في غالب الأحيان (عندما يكون إعلاماً محترفاً، كما هو الحال في معظم الصحف والمحطات والفضائيات الشهيرة).

باختصار: إن الإعلام صَرْحٌ له سور، وللسور بوابة عليها بوّاب لا يسمح بالمرور إلا لما يوافق سياسة الجهاز الإعلامي وبرنامجه. من هنا جاءت نظرية “حارس البوابة” (gatekeeper) التي طورها عالم النفس النمساوي (الأمريكي لاحقاً) كيرْت ليفين (Kurt Lewin) في أربعينيات القرن الماضي، وهي تقول ببساطة: “إن المادة الإعلامية لا تصل إلى الجمهور إلا بعد رحلة طويلة تمر فيها عبر بوابات تخضع فيها للتفتيش لتقرير ما يمر وما يُحجَب”. أو لأقل بعبارة أكثر تبسيطاً: إن لكل جهاز إعلامي مَصافيه التي يصفّي بها المعلومات والأخبار فيسمح ويمنع بما يوافق اختياره الاعتقادي والثقافي والأخلاقي.

*   *   *

بعد هذا الشرح المختصر نصل إلى النتيجة المهمة: لا يمكن ولا يجوز لإعلام الثورة إلا أن ينحاز إلى الثورة، ولكنه انحياز عاقل أمين نظيف يخدم أهدافها النبيلة السامية. فما الدور المرتقَب من إعلام الثورة؟ ما هي المصافي الإعلامية التي ينبغي على إعلاميي الثورة مراعاتُها في المعركة؟

المهمة الأساسية معروفة: الصدق والشفافية في تغطية أخبار الثورة بما يُبقي حاضنتها وجمهورها على اطلاع دائم على ثورتهم ومعرفة وثيقة بما تمر به من ظروف وما تحققه من إنجازات وإخفاقات. هذا هو أصل عمل الإعلام ومن هنا جاء اسمه، فهو “إعلام العامة بما لا يصلون إليه بأنفسهم من أنباء”. لكن هذا القدر من الأداء الإعلامي لا يكفي وحده لجعل الإعلام ثورياً، فماذا أيضاً؟ ما الخصوصية التي تميز إعلام الثورة عن سواه؟

إنها طبيعة صياغة الأخبار وتقديمها، فالإعلام الثوري هو رأس الحربة في “الحرب النفسية” التي تتكامل مع معركة السلاح. إن إعلامي الثورة لا يكذب على جمهوره ولا يخفي حقائقَ من حق الجمهور معرفتها ولا يغير الوقائع مجاملة لبعض الأطراف وخوفاً من سواها، ولكنه يستغل موهبته الإعلامية لصياغة الأخبار بطريقة ترفع الروح المعنوية وتدفع الإحباط واليأس عن نفوس أهل الثورة وتصنع العكس مع الأعداء، مع حجب الأخبار الحرجة والأسرار العسكرية التي قد يستفيد العدو من كشفها… إلى آخر البديهيات التي يعرفها كل إعلامي محترف.

ثم تبقى لإعلامنا بعد ذلك إضافة مهمة لا يملكها إعلام العدو ولا يجيدها، لأن معركتنا أخلاقية قبل أن تكون معركةَ سيطرةٍ وغلبة ونفوذ، وما قامت الثورة أساساً إلا من أجل رعاية وتحقيق المبادئ الأخلاقية الكبرى، الحرية والكرامة والعدالة والإنسانية، فلا يجوز لإعلام الثورة أن يتناقض مع أهداف ثورته ومبادئها النبيلة السامية.

من هذا الباب: حماية الأرواح والممتلكات وتوفير الحرية والكرامة لكل الناس والتعامل الإنساني والإسلامي مع المدنيين والأبرياء بغض النظر عن الانتماء العرقي والديني، وإحقاق الحقوق ورد المظالم وكفّ أيدي الجُناة والمعتدين ومحاسبة الظلَمة والمخطئين، وتكريس أم القواعد الشرعية والإنسانية: الانتصاف للضعفاء من الأقوياء والانتصار للمظلومين على الظالمين.

فمَن خالف هذه القواعد الشرعية والإنسانية من الفصائل وغيرها وجب تشغيل آلة الضغط الإعلامي عليه حتى يفيء إلى الحق، ومن لم يستجب وأصرّ على الظلم وتلبّسَ بالفساد فينبغي أن يصبح مادة دائمة للإعلام الثوري، يلاحقه في كل صعيد حتى يَصلح ويُصلح أو يفارق الثورة ويكفّ أذاه عن الناس، فليس أحدٌ فوق الحق، وويلٌ لثورة يأكل فيها القويُّ الضعيفَ ولا يجد المظلومون فيها ناصرين على الظالمين.

*   *   *

بقيت ملاحظة أخيرة عن “صحافة الثورة الصفراء”. هل تعرفون ما الصحف الصفراء؟ إنها تلك التي تبحث عن القراء والمتابعين من خلال المبالغة في نشر الأخبار الشاذة العجيبة، ليس لأنها أخبار مهمة بل لأنها تُرضي فضول الناس، وليس لأنها أخبار صادقة أو نافعة وإنما لأنها تزيد أعداد القراء والمتابعين فحسب.

ولكن التركيز على هذا النوع من الأخبار ليس عملاً مهنياً شريفاً ويغلب أن يتسبب في تشويه الحقائق والإساءة إلى أفراد وجماعات ومجتمعات. في وقت ما أردت معرفة أخبار بلد عربي فتابعت موقعاً أخبارياً محلياً فيه لا أسمّيه، وبعد بعض الوقت بدأت أشعر أن البلد ليس فيه إلا فساد وسرقة وسطو مسلح وانتحار وقتل وتهريب مخدرات وسوى ذلك من الآفات. ولكني أعرف أنه بلد نظيف آمن وأن أهله أهل نخوة وشهامة وأنهم قوم طيبون مسالمون، فمن أين أتى هذا الانطباع السلبي؟ إنها مشكلة في “بوّاب الموقع” الذي تقمص أسلوب الصحافة الصفراء، فهو يختار عشر حوادث قبيحة شاذة ويهمل عشرة آلاف حادثة خيّرة جميلة، لأن الغاية الأساسية من النشر ليست تقديم صورة حقيقية صادقة عن مجتمعه وإنما هي تقديم أخبار مثيرة تُرضي فضول القراء.

إذا كانت هذه الممارسة مُعيبة وضارة في مجتمع السلم فإنها مدمرة في مجتمع الحرب، لأنها يمكن أن تقتل المعنويات وتكشف الأسرار وتسم الثورة والثوار بأقبح السمات وتتسبب في كوارث لا يعلمها إلا الله، كل ذلك من أجل سبق وخبر وزيادة القراء والمتابعين! فمن صنع ذلك في ثورتنا فلا يستحق شرف لقب “إعلام ثوري”، سواء في ذلك الأفراد والمواقع والصفحات.

*   *   *

الخلاصة: إن الإعلام الثوري هو بوصلة الثورة وحارسها الأمين، وهو المطالَب بدفعها إذا انطلقت في طريقها الصحيح وردّها عن الخطأ إذا ضلت الطريق، وهو رأس الحربة في الحرب النفسية التي ترفد الجيوش على الأرض. فلا يجوز له أن يسلك سبيلاً يخذّل الهمم ويُضعف النفسيات ويوهن القلوب، ولا أن يتغاضى عن أخطاء الثورة ويتصالح مع الفاسدين، لأن الخطر إذا جاء من خارج الجسم الثوري وعجزنا عن دفعه بقدراتنا الذاتية لم نملك إلا أن نلجأ إلى بالله بالدعاء والرجاء وإلى الناس بخطاب التشجيع والتصبير ورفع المعنويات، أما عندما يأتي الخطر من داخل الجسم الثوري فعلينا أن نملك ما يكفي من الشجاعة للاعتراف بالخطأ، وما يكفي من الحكمة والبصيرة للبحث عن العلاج قبل فوات الأوان.

 

نُشِرت في رسائل الثورة | الوسوم: , , , , , , , , , , , , , , , , , | أضف تعليق